الاثنين، 12 أغسطس 2013

ديمقراطية الميادين


   لم تعد الجماهير تؤمن أو تثق بـ((التمثيل السياسي)) كشكل مجدي من اشكال ((التعبير)) عنها وعن مصالحها! فـ((التفويض السياسي)) صار حجة جديدة للاستبداد وخيانة قضايا الجماهير. فراحت الملايين تبتكر((ديمقراطية الميادين)) كشكل جديد من أشكال التعبير السياسي المباشر بلا وسطاء. إن تدني نسب مشاركة الناس في عمليات التصويت والانتخاب هو من أهم مظاهر انعدام الثقة بهذه الآلية الديمقراطية. التي بدأت العديد من القوى السياسية تفرغها من مضمونها الديمقراطي الحقيقي وتستغله كشكل من أشكال الهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع وفرض تدابير غير ديمقراطية باسم الديمقراطية التي كانت التوأم الطبيعي للعلمانية التي تحاربها الأحزاب الدينية فيما هي تستفيد من الآليات الديمقراطية. مما جعل العزوف عن المشاركة السياسية رد فعل طبيعي من قبل الجماهير ضد تعطيل إرادتها وتغييب دورها و مصالحها. بالطبع هذا الشكل من اشكال الديمقراطية المباشرة ليس جديدا تاريخيا فقد مارسه اليونانيون القدامى في ساحاتهم العامة ((الآجورا)).
   إن الجديد في الأمر هو التغير الديموغرافي الهائل مقارنة بتلك العهود القديمة. والجديد النوعي في العصر الحالي هو التواشج والتساند بين التحرك على أرض الواقع والتحرك في فضاء التواصل الأجتماعي المعلوماتي بكافة شبكاتها المختلفة والذي يؤشر بداية عصر جديد من التداول السياسي في الشأن العام. النشاط السياسي الذي كان مقتصرا على الأحزاب السياسية والتحركات والاندفاعات الجماهيرية العفوية. ليس خافيا على المتابع ان الفضاء المعلوماتي الواسع بات عاملا مهما من عوامل التداول والحشد والتنظيم. وهو ما كانت تقوم به الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات المهنية والنقابية. وهذا يفسر الى حد بعيد حجم المشاركة الواسعة للفئات الشبابية التي كانت مشاركتها مقتصرة على المنظمات الطلابية والشبابية المرتبطة هي الأخرى بهذا الحزب أو ذاك. من هنا كان هذا الزخم وعظم المشاركة في النشاط السياسي. ان متغيرا جوهريا ونوعيا يطرأ على الحياة السياسية يقلب الكثير من قواعد ومفاهيم العمل السياسي والذي لايمكن ان تستوعبه العلوم السياسية التقليدية ومصطلحاتها القديمة. لقد تجلت كل هذه المتغيرات في الحياة السياسية في حركات الاحتجاج والانتفاض والتحرك الثوري في حركات ((الربيع العربي)). ومع كل هذه المزايا التي اتسمت بها هذه الظاهرة الجديدة في الحياة السياسية الا انها افتقرت الى عامل مهم الا وهو عامل التنظيم الدائم والقيادة . مما جعل هذه التحركات تسقط بسهولة في قبضة أحزاب وتنظيمات من النمط التقليدي التي تتقن عملية اللعب السياسي في مجال التحالفات وعقد الصفقات والقدرة على التمويل. مما جعلها قادرة على استثمار الشكل الديمقراطي القديم ((ديمقراطية الصناديق)) وتصريف الطاقة الثورية للجماهير في مسارات قد تكون على النقيض من تطلعات وآمال الجماهير. اذن هنا مفارقة جديدة في الحياة السياسية فالطاقة الثورية الهائلة للجماهير في جانب والتنظيم والقيادة المتمرسة في جانب آخر. هذا ما تبين من استئناف الجماهير المصرية لتحركها الثوري وإنقاذ آمالها وأحلامها من براثن الالاعيب السياسية التقليدية للأحزاب التقليدية وخصوصا الدينية.
   هنا أمام العلم السياسي مجال خصب وكبير للبحث والدراسة لاستنباط مفاهيم ومصطلحات جديدة ومحاولة الوصول الى تصور علمي لربط المشاركة السياسية للجماهير مباشرة مع آليات التنظيم واتخاذ القرار السياسي على مستوى مؤسسات الدولة والمجتمع وبالاستفادة الاكيدة من التكنولوجيا المعلوماتية وشبكات التواصل الاجتماعي لردم تلك الفجوة بين القرار السياسي والحياة الاجتماعية منعا لاستفحال الازمات التي تؤدي الى احتجاجات وانفجارات شعبية واسعة. هذا المجال الذي كانت تشغله وتنشط فيه الأحزاب والتنظيمات والشخصيات السياسية كوسيط بين الجماهير الواسعة ومراكز القرار السياسي للسلطة السياسية للدولة. ان دروسا وعبرا كثيرة يمكن استخلاصها من التحركات والتغيرات السياسية في المنطقة ودخول العامل التكنولوجي المعلوماتي كوسيط ممكن ومنافس للدور التقليدي للوسيط و((الممثل السياسي)) التقليدي للجماهير، أي الأحزاب والشخصيات السياسية التي كان تراجع دورها من أهم سمات السنين الماضية التي وسمت ((الربيع العربي)) لصالح الدور المباشر للجماهير الذي بدأت تفرض رؤيتها بشكل مباشر وصريح وليس عبر وسطاء وفق التصور السياسي التقليدي لـ((التمثيل السياسي)). وقد كان لافتا جدا الإشارة الى اشراك الشباب في صناعة القرار في الأجهزة التنفيذية للدولة في بيان وزير الدفاع المصري الأخير في 3/7/2013 . فكيف ستحل المجتمعات الحديثة هذا التناقض الجديد في الحياة السياسية بين ((ديمقراطية الصناديق)) و ((ديمقراطية الميادين)). ان الثورة المعلوماتية واستخدامها السياسي والتعمق البحثي المتخصص للواقع الميداني من قبل العلم السياسي هو الذي سيوفر التصورات والرؤى والمفاهيم وبالتالي الحلول لردم الفجوة التي لم تعد مقبولة بين الجماهير الواسعة وقضاياها وبين مراكز القرار السياسي المهيمن. فلم يعد ممكنا اليوم الركون الى التصورات والنظريات النخبوية بين قلة تحكم وتقرر واكثرية تقاد دون الاستئناس برأيها وان حدث ففي أحسن الأحوال عبر تصويت دوري يمتد لسنوات تكون فيه قد طرأت متغيرات وتفاقمت مشاكل لا حصر لها. فهل ننتقل من عصر((حق التمثيل)) الى عصر((حق التعبير)) المباشر بالاستفادة من مزايا التكنولوجيا المعلوماتية الحديثة ؟!
04/07/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق