السبت، 10 أغسطس 2013

مأزق الربيع العربي


   كلمة وزير الدفاع المصري في(23 يونيو/حزيران 2013) تحتمل اكثر من قراءة رغم وضوح خطابها المباشر في تناوله للواقع السياسي المصري الراهن. فما لم يُقل كان أهم وأخطر بكثير مما قيل على أهميته. لقد اكتنفت ظاهرة ((الربيع العربي)) الكثير من الملابسات وتجاذبتها العديد من العوامل الداخلية والأقليمية والدولية. فما بدا واضحا وبسيطا من وجهها الظاهر كشفت الأحدات التي توالت بعد ذلك عن الكثير من الغموض في المآلات التي انتهت إليها. وكانت بساطة الشعارات التي رافقتها وعموميتها (عيش، حرية، عدالة، كرامة أنسانية) من أهم المؤشرات على هلامية حركات الأحتجاج وعدم وضوح الصياغة النظرية العلمية لتحرك القوى الأجتماعية التي ساهمت فيها. واحد أسباب التخبط الذي أعقب التحرك الجماهيري وجعل من السهولة بمكان تحويل مجراه الثوري الى مسارات أخرى تبين لاحقا انها على النقيض مما كانت تهدف اليه أصلا. وأسهم في أجهاض الزخم الثوري والأنقضاض على الفئات والأطراف التي كانت في البداية تبدو وكأنها هي التي تمسك بزمام الأمور وتقود التحرك الثوري الجماهيري. فقد تم تصريف المد الثوري في مسارات فرعية ولم ينتبه الجميع إلا والأمور قد أفلتت من السيطرة والتحكم. وانتهى الأمر بالتحرك الثوري للسقوط في قبضة قوى سياسية هي على النقيض من اهداف وشعارات التحرك الثوري، لا بل هي أشد رجعية وقسوة من النظام الذي كان من المفترض استبداله بنظام اكثر حداثية وعصرية واستجابة لمطالب العدالة الاجتماعية. وهذا ما قدم وسيقدم ذريعة قوية وحجة لا تقبل الدحض للطعن بمشروعية التحرك الثوري وأجهاضه كليا ونهائيا.
   أنها لمفارقة تاريخية كبرى ان تنتج حركة ثورية وضعا محافظا بل نكوصا الى وضع اكثر رجعية من الوضع الذي تحركت ضده. تبقى أهمية مقولة ((لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية)) هنا صحيحة أيضا ولكن مع طروء عامل جديد ومهم ومتغير لم يكن موجودا. أن الثورة المعلوماتية وانتشار شبكات التواصل الأجتماعي يمثل بعدا جديدا واضافة جوهرية للحياة المعاصرة. لقد أثر هذا المتغير على المجال السياسي والعمل الجماهيري رغم محدوديته بسبب ارتفاع نسبة الأمية في المجتمع بشكل لم ينتبه له الانتباه الكافي إلا الفئات الشابة في المجتمع فوظفته توظيفا كاملا للتعبير عن افكارها وامالها ورؤيتها لمستقبل المجتع ونقد حاضره المتخلف. مما لعب دورا كبيرا في تعبئة وحشد الطاقة الثورية في المجتمع وتركيزها باتجاه تحرك ثوري يطالب بالتغيير. فكانت أداة حشد وتعبئة تجاوزت كثيرا دور الأحزاب التقليدية ووسائلها التقليدية في الحشد والتعبئة لذلك بدا واضحا ان دور الأحزاب التقليدية بالمبادرة قد تم تجاوزه. ولكن هذا قد حدث على حساب التنظيم والقيادة وتحديد الأهداف القريبة والبعيدة للتحرك وهو ما تمتاز به الأحزاب التقليدية في هذا الجانب. اذن كانت الطاقة الثورية الكبيرة في جانب وعامل التنظيم والقيادة في جانب آخر. ولم يتم التنسيق والاستفادة من جمع هذين الاتجاهين في صيغة تحرك منظم ومخطط يفضي لتحقيق اهداف وغايات محددة. هذا الشرخ هو الذي نفذت منه الأحزاب والتنظيمات الدينية المعروفة بقدرتها على قيادة أعضائها المنتمين اليها وضبطهم بشكل يفوق كثيرا قدرة التحرك الجماهيري والشبابي على التنظيم والضبط. ولكن لماذا هذه الأحزاب تحديدا وليس الأحزاب الأخرى التي تنتمي للتيار العلماني والليبرالي ؟! هنا يأتي دور التمويل المالي والدعم اللوجستي والتنسيق بين هذه الأحزاب والتنظيات على الصعيد الإقليمي والذي تدعمه بشدة مصادر التمويل المالي الإقليمي والذي في اغلبه هو موارد الريع الاقتصادي للدول المنتجة للطاقة في المنطقة والمعروفة بتوجهاتها المحافظة على الصعيد السياسي. بحيث اجتمعت عوامل التنظيم والتنسيق الإقليمي والدعم المالي لصالح ترجيح كفة الأحزاب والتنظيمات الدينية في االمنطقة. وهنا يضاف الى هذا التحالف الدعم العالمي لمراكز النظام الاقتصادي الرأسمالي والذي يعتبر شريكه الأساسي عبر تقسيم العمل الدولي أنظمة الحكم في الدول المنتجة للطاقة. ومصلحة هذه القوى جميعها باتت مركزة في احتواء القوى الثورية والسيطرة عليها لكي لا تفلت الأمور وتخرج عن السيطرة. وكل من تابع موقف الإدارة الأميركية وسياساتها من حركات الاحتجاج الثورية قد يتعجل ويذهب الى الاستنتاج الخاطئ ان هذه الإدارة قد تخلت عن حلفاءها التقليديين وانحازت الى قوى الاحتجاج والتحرك الثوري. وهذا الحكم على الأمور حكم متسرع وسطحي. فحقيقة السياسات العالمية وخاصة الإدارة الأميركية أنها قد انتهجت استراتيجية جديدة في المنطقة وانتقلت من سياسة احتواء الحكام الى سياسة احتواء الثورات ؟! وهذا ما نجحت فيه. فالتخلي عن حاكم تقليدي حليف لا يعني التخلي عن المصالح بل هو تكييف للسياسات وفق المتغيرات التي تشهدها المنطقة والامساك بمسارات التغيير والتحكم به من خلال التحالفات مع الأنظمة والقوى المحافظة في المنطقة وضمان اكيد لهذه المصالح بدل الوقوف ضد التحركات الجماهيرية الاحتجاجية وهذا هو الذي حدث بالضبط ونشأ هذا التحالف الواسع والمقتدر تنظيميا وماليا وإن لم يكن المعبر بالضرورة عن طموحات واهداف القوى الثورية رغم الادعاء اللفظي بانها تعبر عن قوى التغيير وانها تحكم باسمها. فالتعبير الحقيقي يكون تعبيرا في السياسات الفعلية وليس عل مستوى الادعاء اللفظي. وقد كانت كل السياسات الفعلية هي ضد طموحات وتطلعات الجماهير والشباب والفئات المثقفة والتي بدأت تشعر بانها استغلت ابشع استغلال وتعرضت كل الشعارات التي تطمح الى تحقيقها الى الإجهاض. وهذا ما يجعلها اليوم تستأنف الحشد والتعبئة لتصحيح المسار. فهل هي قادرة على ذلك ؟! من الصعب الجزم عما ستؤول اليه الاحداث ولكن المؤكد هو أن تغييرا ما يجب إنجازه أما إذا كان هذا الإنجاز بمستوى الطموح أو دونه فهذا ماستتحكم فيه عوامل وتفاعلات معقدة محلية وإقليمية ودولية.
   والان ماذا عن المؤسسة العسكرية ؟!
   إن كلّ تحليلٍ لوضع المنطقة العربية، لن يكون مجدياً ما لمْ ينطلق من التحليل الكلي لمجمل الوضع العالمي بنظامه الرأسمالي المعولم المهيمن الحالي، الذي برزت فيه الشركات والمؤسسات ككيانات تتجاوز في نشاطها أطر ((الدولة الوطنية)) والتي كانت سمة النظام الرأسمالي الذي أنتج ((سايكس-بيكو)). ففي الوقت الراهن هناك صراع هيمنة بين الدولة والشركات العملاقة حول لمن يكون القرار في رسم السياسات العالمية. وذلك يستدعي ترتيباً جديداً للعلاقات بين ((المراكز)) الرأسمالية و ((الأطراف)) تكون فيه ((الدولة)) تابعاً للسياسات العامة التي أخذت برسمها الشركات العملاقة، ومن هنا تراجع دورالدولة وخاصة في أضعف حلقاتها، وهي دولة سايكس-بيكو، دولة((الحداثة الهشة))التي بحكم ارتباطاتها بالمتروبولات باتت غير قادرة علي مجابهة الظروف المستجدة للنظام الرأسمالي، فأخذت بالتهاوي واحدة تلو الأخرى. إن تلك الدولة لم تستطع ((تحديث)) مجتمعاتها، بحكم طبيعة القوى السياسية التي قادت تلك المرحلة من الحداثة المحدودة التي كانت تجري على نطاق نخبوي ضيق ومحدود جداً من الدولة ولمْ تشمل الكيان الاجتماعي كله. وما ذلك الاّ نتيجة طبيعة الدولة ((التابعة)) و ((الريعية))، فكانت دولة ((رعايا)) لا دولة ((مواطنين))، ومن هنا كانت هشاشتها وضعفها والتي لم تستطع استيعاب المتغيرات العالمية والداخلية فعصفت بها المتغيرات الجديدة وقد تجلت بشكل ساطع هشاشة هذه الدولة حينما اخترقت مجتمعاتها ومجالها السياسي بكل سهولة ويسر مقولات مثل ((المكونات)) و((الجماعات)) القبلية والاثنية والدينية والمذهبية...الخ. وطفا على سطح المجتمع كلّ ما لمْ تستطع تلك الدولة من تحديثه والانتقال به الى مرحلة ارقى من التنظيم الاجتماعي الحديث الذي أنجزته الحداثة الاوربية. أن النواة الصلبة للدولة هي المؤسسات التي تحتكر العنف وأكثر تنظيماتها تماسكا وانضباطا هي المؤسسة العسكرية. من هنا نستطيع فهم التحذير الذي صدر من المؤسسة العسكرية ضد الأطراف والقوى التي تهدد صراعاتها كيان الدولة كله وضامنه الأكيد والأخير وهو المؤسسة العسكرية التي باتت تستشعر الخطر الذي قد يودي بها وبالدولة معا. يضاف الى ذلك متغير جديد وخطير في الحياة السياسية المعاصرة وهو ما بات يعرف بظاهرة ((خصخصة العنف)) وبناء مؤسسات عنفية خارج اطار الدولة واحتكارها التقليدي لهذا النشاط. وهو المدعوم بالتأكيد من قبل المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى بحكم كلفتها الباهظة سواء كانت هذا الأطراف الداعمة تعمل ضمن اطار الدول او خاضعة كليا للمصالح الأقتصادية المباشرة. وهذا ما تراقبه بقلق مؤسات العنف التقليدية ومنها المؤسسة العسكرية. ان القوى التي تسلمت السلطة السياسية بات واضحا انها تسعى للهيمنة على مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى ويبدو ان المؤسسة العسكرية من اهم الأهداف التي يجب السيطرة عليها باعتبارها الهدف الأخير لكل هيمنة سياسية فمن يضع يده عليها يكون قد احكم هيمنته وسيطرته على الدولة والمجتمع كليا. وقد ظهر جليا ان القوى السياسية المسيطرة الان تتحرك في اطار إقليمي نظرا للصلات الموجودة للأحزاب والتنظيمات الدينية العابرة لمفهوم ((الدولة الوطنية)). ان المعركة الان باتت معركة ((الهيمنة)) مهما بدا ان المؤسسة العسكرية تطرح نفسها كعامل ((حيادي)) في الصراع وهي تريد ترتيب الأوضاع السياسية وفق الرؤية التقليدية. في حين ان الاستقطابات والصراعات في المنطقة تدور على مستوى إقليمي معقد وغير مبرّأ من التدخل الدولي. أن الصراع أعمق وأكبر مما يبدو ظاهريا ولن يكون بمقدور قوة سياسية واحدة ان تحسمه. من هنا سيكون الرابح من يجيد لعبة التحالفات والتحشيد والتحييد ويتقنها. فهل ستقع قوى الاحتجاج والتحرك الثوري مرة أخرى ضحية لهذه اللعبة السياسية المعقدة ؟!   
26/6/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق