الخميس، 5 سبتمبر 2013

مشروع الخراب الكبير


((مشروع الخراب الكبير))

من مناطق النفوذ إلى مناطق الأستثمار المباشر!
*******************************
   مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو ترتيبات جديدة للمنطقة ينسخ ترتيبات ((سايكس– بيكو))، التي صاغت المنطقة كمناطق نفوذ وفق نموذج ((الدولة الوطنية)), واللذي قادته بريطانيا العظمى وفرنسا بصورة أساسية, حيث كانتا تتصدران السيطرة والتحكم بالمنطقة, في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الثانية وبعد ما تعرضت له الدول المشاركة فيها من انهاك وما تكبدته من خسائر، وتنامي الوعي الوطني التحرري في الدول المتشكلة حديثاً، وبروز ((حركات التحرر الوطني)) مدعومة من المنظومة السوفييتة والأشتراكية السابقة, دخلت تحويرات جوهرية على هذا النموذج, تمثل في محاولة استكمال الأستقلال وتأكيد السيادة الوطنية. لكن القوى السياسية التي قادت تلك المرحلة لم تستطع النهوض بهذه المهمة بشكل ناجز, لأبتعادها عن المنهج الجذري الذي يحررها فعلياً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي, حيث ظلت تابعة أقتصاديا وثقافيا للمراكز التي رسمت خرائط ((سايكس- بيكو)), مما أفقد دول المنطقة فرصتها التاريخية لبناء وتحديث مجتمعاتها بالشكل الحداثي الكامل فظلت في منطقة ((المابين)) نموذجا واضحا للحداثة الهشة، والذي تجلى سياسيا في صيغة حركة عدم الانحياز. وظلّ الأمر كذلك طيلة الحقبة التي اصطلح على تسميتها بالحرب الباردة، وعقب انتهاء هذه الحقبة برز دور الولايات المتحدة الأميركية, كقوة مهيمنة وحيدة في العالم, مما استتبع ضرورة صياغة ترتيبات جديدة وفق رؤية جديدة, تبلور بقيام نظام دولي جديد, ترافق مع السياسات الاقتصادية الجديدة التي اقترنت باسمي ريغان- تاتشر. حيث أطلق العنان للشركات الكبرى للأفلات من الأعباء المكلفة بتنازلها عن جزء من ارباحها لتمويل دول ((الرفاه))، فشرعت الرساميل بالتملص من حدود الدولة الوطنية، واللجوء إلى ما بات يُعرف بـ((الملاذات الضريبية)) التي هي في حقيقتها ملاذات لاضريبية. والبحث عن مناطق أستثمار غير خاضعة لشروط دولة الرفاه التي تحققت وترسّخت عبر نضال طويل في الدول الصناعية المتقدمة.

   للمرء أن يتمنى ما يتمنى, ولكن ليس عليه أن يتوقع إلاّ وفق الأستدلال العقلي. فتجار الدم وصعاليك الفكر ماضون، وبحزم, بفوضاهم الخلاقة, في تأثيث بلداننا لكي تصبح ((بيئة صالحة للأستثمار))! وفق الشروط التي تحقق للرساميل المهاجرة من المراكز الصناعية التقليدية, اقصى قدر من الأرباح على حساب البنى التحتية للمناطق التي تحلّ فيها, وباستنفاذ قوة العمل البشرية بشروط عمل تعود إلى بدايات صعود النظام الراسمالي, أي باستخلاص أقصى فائض من عمليات الأنتاج على حساب مستوى معيشة متدني وغير لائق بالحياة الحديثة للعاملين.

   إن العالم اليوم في طريقه, بحكم سيطرة وسطوة الشركات الكبرى, إلى تقويض الدول الوطنية الرخوة في المناطق التي لم تشهد تحولات تنموية حقيقية, إنْ على المستوى الأقتصادي أو الأجتماعي وتخلف الوعي العلمي والثقافي الحديث للأفراد, مما يجعل هذه المناطق عرضة للأضطرابات والصراعات العنيفة, بعد أن تزعزعت أقتصاداتها المحلية الطبيعية بحكم ارتباطها بالأقتصاد الصناعي المتقدم. هذا الأمر خلّف قوة عمل معطلة ومتكدسة في المدن, وقد تحولت إلى جيوش احتياطية للصراعات والنزاعات الأهلية, مادام هناك من يموّل هذه النشاطات ويغذّيها مالياً وأيديولوجياً ويمدها بالسلاح والتدريب. إن النواة الصلبة لكل دولة بالمعنى الحديث هي المؤسسات المحتكرة لوسائل العنف, من جيش وشرطة وقوى أمنية, وعندما يتم منافسة هذه المؤسسات التقليدية, بجماعات مسلحة ومليشيات (أي ما يشبه خصصة مؤسسات العنف التقليدية) ممولة جيداً وتعمل بغطاء فكري وايديولوجي متعصب وضيق, فأن دولة بهذا الوضع ماضية بلا ريب إلى الأنهيار، وأعادة تشكيلها وصياغتها وفق رؤى جديدة. هي على الأغلب خلق كيانات ما دون الدولة, وبأيديولوجيات إثنية وعرقية ودينية ومذهبية ضيقة, تجعل من هذه الكيانات الجديدة في وضع أضعف بكثير من دولة وطنية مركزية متحكمة بكل النشاطات الأقتصادية والأجتماعية, مما يجعلها في وضع قابل للأحتواء والتحكم من قبل الشركات الكبرى, التي تمنّي نفسها باستثمار طويل الأمد في هذه المنطقة الثرية بالطاقة وبالقوى البشرية.

   وهنا يكون العائق الأكبر لتحقيق هذا, هو مدى قوة وتماسك المؤسسات التقليدية للدولة, فكلما كانت قوية اكثر زادت فرص أستمرار الصراع لفترات زمنية طويلة. وقد كان الفرق واضحا في الحالة الليبية التي لم تستغرق زمنا طويلا, والحالة السورية حيث يمتد ويطول الصراع. وفي كل الحالات لا يحسم الأمر سوى تدخل عسكري خارجي. إنّ إطالة الصراع في سوريا كان نتيجة التوجس من هيمنة جماعات متطرفة وخارجة عن السيطرة في الحالات التي سبقتها. مما جعل الدول الكبرى تعزف عن حسم الأمر سريعاً, فأطالة الصراع يؤدي إلى نتيجة أكيدة, وهي أنهاك وأضعاف كافة أطراف الصراع, ويحولها إلى قوى ضعيفة ومنهكة حتى لو تسلمت السلطة في هذه البلدان, مما يسهّل السيطرة والتحكم بها لاحقاً. أما الأسراع حدّ التعجل في الحالة السورية مؤخراً, جاء نتيجة تطور غير محسوب وغير متحكم به في المنطقة, مما بدا وكأنه تهديد جدي وخطير لمشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي في المنطقة. هذا التطور تمثّل بتدخل مؤسسة عريقة وقوية, هي الجيش المصري, لانهاء سلطة ((الأخوان المسلمين)) بمصر, فلو تُركت أمور المنطقة لحالها فأن تأثير هذا التطور سيكون دافعا وحافزا قويا لدول المنطقة لأجهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير. ((هكذا نفهم تلك الحركة الدؤوبة والرسل والرسائل التي باتت تنهال على مصر بعد تحركها الأخير ضد سلطة ((الاخوان المسلمين))، وهو التحرك الذي أربك الاستراتيجية الاميركية وأحرج ترتيباتها لتحقيق مشروع ((الشرق الاوسط الكبير)). وللمرء أنْ يتوقع عدم استسلام الادارة الاميركية لهذا التعثر الذي أصاب جهودها في المنطقة، وليس مستغربا أن تلجأ إلى سياسة البدائل المتاحة لهذه الخسارة التي منيت بها بمصر، والجبهة المرشحة لتعويض هذه الخسارة هي سوريا التي سيجري الضغط عليها ومحاولة احراز انجاز ما فيها، وهنا ستتجه نحو خيار الانخراط مباشرة عسكريا في الصراع الدائر هناك)) (1). والتطور الآخر كان احراز النظام السوري, مؤخرا, لمكاسب على الأرض باتجاه حسم الصراع لصالحه, وهذا ما يجعل مصممي مشروع الشرق الأوسط الكبير في مأزق حقيقي, فخسارة مصر ثم سوربا يمثل أخفاقا كاملا لمشروعهم, فكان لابد من التحرك سريعا والذهاب إلى قرار التدخل العسكري المباشر في الصراع السوري.

  إن التعجل الأميركي والقرار الذي أعلنه أوباما أخيراً بتوجيه ضربة ((محدودة!)) للنظام السوري, وكأن قرارات الحرب خاضعة للتحكم والسيطرة, فكم من تدخل وتحرك محدود أفضى إلى صراع طويل وواسع, سيؤدي إلى تداعيات بالغة الخطورة في المنطقة من الصعب التنبؤ بعواقبها ونتائجها. بالكلمات التالية التي صفق لها البعض كثيرا, واحتفى بها الكثيرون وكأن تغيير الرؤساء في البلدان الكبرى سيؤدي إلى تغيير السياسات الأساسية والجوهرية وإغفال حسابات المصالح، في خطاب القاهرة الشهير للرئيس الأميركي أوباما بتاريخ الرابع من يونيو 2009 تحت عنوان (بداية جديدة)- A New Beginning))، قال أوباما: ((أسمحو لي أيضا أن أتطرق إلى موضوع العراق. لقد اختلف الوضع هناك عن الوضع في أفغانستان حيث وقع القرار بحرب العراق بصفة اختيارية مما أثار خلافات شديدة سواء في بلدي أو في الخارج. ورغم اعتقادي بأن الشعب العراقي في نهاية المطاف هو الطرف الكاسب في معادلة التخلص من الطاغية صدام حسين إلا أنني أعتقد أيضا أن أحداث العراق قد ذكرت أمريكا بضرورة استخدام الدبلوماسية لتسوية مشاكلنا كلما كان ذلك ممكنا. وفي الحقيقة فأننا نستذكر كلمات أحد كبار رؤساننا توماس جيفرسون الذي قال "أنني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها" ... اسمحوا لي أن أتحدث بوضوح واقول ما يلي.. لا يمكن لأية دولة ولا ينبغي على أية دولة أن تفرض نظاما للحكم على أية دولة أخرى. ))!!! ولكن الحكمة تفر, دائما, عندما تحضر المصلحة. فهل انصت الرئيس لصوت الحكمة؟ وهل التزم بما قاله ووعد به؟ إن وعود الرؤساء الأخلاقية, غالبا, ما يتم نقضها عند ممارسة السلطة. فالرئيس أوباما في يوم السبت 31/8/2013 قال إنه "سوف يسعى للحصول على تفويض من ممثلي الشعب الأميركي في الكونغرس قبل توجيه ضربة عسكرية لسوريا", وأوضح أوباما أن المسألة ستطرح للنقاش والتصويت في الكونغرس, قبل إقرار " ضربة لن تكون مفتوحة أو طويلة الأمد ولن تشارك بها قوات برية".

   كلما نظرت إلى هذا العالم بصراعاته الدامية ومآسيه, وتأملت في أقوال وأفعال من يحكمونه ويديرون شؤون شعوبه بكثير من الأستخفاف  واللامبالاة بمصائر البشر وآلامهم، تذكرت كلمات الشاعر سان جون بيرس: (( وكان الشرف يتهرّب من أنصع الجباه شهرة ))!

       5/9/2013                                                 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نبيل محمود, البحث عن البطل!, الحوار المتمدن العدد 4197– 27/8/2013         http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=375198